فصل: تفسير الآيات رقم (8 - 9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 9‏]‏

‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ‏}‏

يقول ‏[‏تبارك و‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْوَزْن‏}‏ أي‏:‏ للأعمال يوم القيامة ‏{‏الْحَق‏}‏ أي‏:‏ لا يظلم تعالى أحدا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 6-11‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101 -103‏]‏‏.‏

فصل ‏[‏في الميزان والحساب‏]‏

والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل‏:‏ الأعمال وإن كانت أعراضًا، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما‏.‏

قال البغوي‏:‏ يروى هذا عن ابن عباس كما جاء في الصحيح من أن ‏"‏البقرة‏"‏ و‏"‏آل عمران‏"‏ يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -أو‏:‏ غيَايَتان -أو فِرْقَان من طير صَوَافّ‏.‏ من ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللَّون، فيقول‏:‏ من أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك وفي حديث البراء، في قصة سؤال القبر‏:‏ ‏"‏فيأتي المؤمن شابٌّ حسن اللون طيّب الريح، فيقول‏:‏ من أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا عملك الصالح‏"‏ وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق‏.‏

وقيل‏:‏ يوزن كتاب الأعمال، كما جاء في حديث البطاقة، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كِفَّة تسعة وتسعون سجلا كل سِجِلّ مَدّ البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ فيقول‏:‏ يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات‏؟‏ فيقول الله تعالى‏:‏ إنك لا تُظلَم‏.‏ فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فَطاشَت السجلات، وثَقُلَتِ البطاقة‏"‏‏.‏ رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه‏.‏

وقيل‏:‏ يوزن صاحب العمل، كما في الحديث‏:‏ ‏"‏يُؤتَى يوم القيامة بالرجل السَّمِين، فلا يَزِن عند الله جَنَاح بَعُوضَة‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 105‏]‏‏.‏

وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أتعجبون من دِقَّة ساقَيْهِ، فوالذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أُحُدٍ‏"‏

وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا، فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ‏}‏

يقول تعالى ممتنا على عبيده فيما مكن لهم من أنه جَعَل الأرض قرارًا، وجعل لها رواسي وأنهارًا، وجعل لهم فيها منازل وبيوتًا، وأباح منافعها، وسَخَّر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها، وجعل لهم فيها معايش، أي‏:‏ مكاسب وأسبابًا يتجرون فيها، ويتسببون أنواع الأسباب، وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وقد قرأ الجميع‏:‏ ‏{‏مَعَايِش‏}‏ بلا همز، إلا عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج فإنه همزها‏.‏ والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز؛ لأن معايش جمع معيشة، من عاش يعيش عيشا، ومعيشة أصلها ‏"‏مَعْيِشَة‏"‏ فاستثقلت الكسرة على الياء، فنقلت إلى العين فصارت مَعِيشة، فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال، فقيل‏:‏ معايش‏.‏ ووزنه مفاعل؛ لأن الياء أصلية في الكلمة‏.‏ بخلاف مدائن وصحائف وبصائر، جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من‏:‏ مدن وصحف وأبصر، فإن الياء فيها زائدة، ولهذا تجمع على فعائل، وتهمز لذلك، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ‏}‏

ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس، وما هو مُنْطَوٍ عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ‏[‏فَسَجَدُوا‏]‏‏}‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏[‏فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ‏]‏‏}‏ الآية ‏[‏الحجر‏:‏ 28 -30‏]‏، وذلك أنه تعالى لما خلق آدم، عليه السلام، بيده من طين لازب، وصوره بشرًا ‏[‏سويا‏]‏ ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الرب تعالى وجلاله، فسمعوا كلهم وأطاعوا، إلا إبليس لم يكن من الساجدين‏.‏ وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير ‏"‏سورة البقرة‏"‏‏.‏ وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير‏:‏ أن المراد بذلك كله آدم، عليه السلام‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏ قال‏:‏ خُلِقوا في أصلاب الرجال، وصُوِّروا في أرحام النساء‏.‏ رواه الحاكم، وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه‏.‏

ونقله ابن جرير عن بعض السلف أيضا‏:‏ أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم‏:‏ الذرية‏.‏

وقال الربيع بن أنس، والسُّدي، وقتادة، والضحاك في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خلقنا آدم ثم صورنا الذرية‏.‏

وهذا فيه نظر؛ لأنه قال بعده‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ‏}‏ فدل على أن المراد بذلك آدم، وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 57‏]‏ والمراد‏:‏ آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى ‏[‏عليه السلام‏]‏ ولكن لما كان ذلك مِنَّةً على الآباء الذين هم أصلٌ صار كأنه واقع على الأبناء‏.‏ وهذا بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏[‏ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ‏]‏‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12 -13‏]‏ فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة وذريته مخلوقون من نطفة، وصح هذا لأن المراد من خلقنا الإنسان الجنس، لا معينا، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏

قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا ‏[‏مَنَعَكَ‏]‏ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏ لا هاهنا زائدة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ زيدت لتأكيد الجحد، كقول الشاعر‏:‏

ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله ***

فأدخل ‏"‏إن‏"‏ وهي للنفي، على ‏"‏ما‏"‏ النافية؛ لتأكيد النفي، قالوا‏:‏ وكذلك هاهنا‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ‏}‏ مع تقدم قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ‏}‏ حكاهما ابن جرير وردهما، واختار أن ‏"‏منعك‏"‏ تضمن معنى فعل آخر تقديره‏:‏ ما أحوجك وألزمك واضطرك ألا تسجد إذ أمرتك، ونحو ذلك‏.‏ وهذا القول قوي حسن، والله أعلم‏.‏

وقول إبليس لعنه الله‏:‏ ‏{‏أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ‏}‏ من العذر الذي هو أكبر من الذنب، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني لعنه الله‏:‏ وأنا خير منه، فكيف تأمرني بالسجود له‏؟‏ ثم بين أنه خير منه، بأنه خلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه، وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر، ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسًا فاسدًا في مقابلة نص قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏72‏]‏ فشذ من بين الملائكة بتَرْك السجود؛ فلهذا أبلس من الرحمة، أي‏:‏ أيس من الرحمة، فأخطأ قَبَّحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضًا، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح‏.‏ والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة؛ ولهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره في الرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خُلِقَت الملائكة من نور، وخُلقَ إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم‏"‏ هكذا رواه مسلم‏.‏

وقال ابن مَرْدُوَيه‏:‏ حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل، عن عبد الله بن مسعود، حدثنا نُعَيم ابن حماد، حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خلق الله الملائكة من نور العرش، وخلق الجان من ‏[‏مارج من‏]‏ نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم‏"‏‏.‏ قلت لنعيم بن حماد‏:‏ أين سمعت هذا من عبد الرزاق‏؟‏ قال‏:‏ باليمن وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح‏:‏ ‏"‏وخلقت الحور العين من الزعفران‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كثير، عن ابن شَوْذَب، عن مطر الوَرَّاق، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏ قال‏:‏ قاس إبليس، وهو أول من قاس‏.‏ إسناده صحيح‏.‏

وقال‏:‏ حدثني عمرو بن مالك، حدثنى يحيى بن سليم الطائفي عن هشام، عن ابن سيرين قال‏:‏ أول من قاس إبليس، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 17‏]‏

‏{‏قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ‏}‏

يقول تعالى مخاطبًا لإبليس بأمر قدري كوني‏:‏ ‏{‏فَاهْبِطْ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ بسبب عصيانك لأمري، وخروجك عن طاعتي، فما يكون لك أن تتكبر فيها‏.‏

قال كثير من المفسرين‏:‏ الضمير عائد إلى الجنة، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى‏.‏

‏{‏فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ الذليلين الحقيرين، معاملة له بنقيض قصده، مكافأة لمراده بضده، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين، قال‏:‏ ‏{‏أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين‏}‏ أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا مُعَقِّبَ لحكمه، وهو سريع الحساب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 17‏]‏

‏{‏قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ‏}‏

يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس ‏{‏إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال‏:‏ ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ أي‏:‏ كما أغويتني‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كما أضللتني‏.‏ وقال غيره‏:‏ كما أهلكتني لأقعدن لعبادك -الذين تخلقهم منذرية هذا الذي أبعدتني بسببه -على ‏{‏صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ أي‏:‏ طريق الحق وسبيل النجاة، ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي‏.‏

وقال بعض النحاة‏:‏ الباء هاهنا قسمية، كأنه يقول‏:‏ فبأغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ يعني‏:‏ الحق‏.‏

وقال محمد بن سوقة، عن عون بن عبد الله‏:‏ يعني طريق مكة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك ‏[‏كله‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ لما روى الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو عَقِيل- يعني الثقفي عبد الله بن عقيل -حدثنا موسى بن المسيب، أخبرني سالم بن أبي الجَعْد عن سَبْرَة بن أبي فَاكِه قال‏:‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال‏:‏ أتسلم وتذر دينك ودين آبائك‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فعصاه وأسلم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏وقعد له بطريق الهجرة فقال‏:‏ أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطّوَل‏؟‏ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال‏:‏ تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فعصاه، فجاهد‏"‏‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقا على الله، عز وجل، أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وَقَصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ‏[‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ‏]‏‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ أشككهم في آخرتهم، ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ أرغبهم في دنياهم ‏{‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏}‏ أشبَه عليهم أمر دينهم ‏{‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏ أشهي لهم المعاصي‏.‏

وقال ‏[‏علي‏]‏ بن طلحة -في رواية -والعَوْفي، كلاهما عن ابن عباس‏:‏ أما ‏{‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ فمن قبل دنياهم، وأما ‏{‏مِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ فأمر آخرتهم، وأما ‏{‏عَنْ أَيْمَانِهِمْ‏}‏ فمن قِبَل حسناتهم، وأما ‏{‏عَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏ فمن قبل سيئاتهم‏.‏

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة‏:‏ أتاهم ‏{‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ فأخبرهم أنه لا بعث ولا

جنة ولا نار ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها و‏{‏عَنْ أَيْمَانِهِم‏}‏ من قبل حسناتهم بَطَّاهم عنها ‏{‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏ زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها‏.‏ آتاك يا ابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله‏.‏

وكذا رُوي عن إبراهيم النَّخَعي، والحكم بن عتيبة والسدي، وابن جرير إلا أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ الدنيا ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ الآخرة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏"‏من بين أيديهم وعن أيمانهم‏"‏‏:‏ حيث يبصرون، ‏"‏ومن خلفهم وعن شمائلهم‏"‏‏:‏ حيث لا يبصرون‏.‏

واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه، والشر يُحببه لهم‏.‏

وقال الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏ ولم يقل‏:‏ من فوقهم؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ‏}‏ قال‏:‏ موحدين‏.‏

وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏

ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها، كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده‏:‏ حدثنا نَصْر بن علي، حدثنا عمرو بن مُجَمِّع، عن يونس بن خَبَّاب، عن ابن جُبَيْر بن مُطْعِم -يعني نافع بن جبير -عن ابن عباس -وحدثنا عمر بن الخطاب -يعني السجستاني -حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسَةَ، عن يونس بن خباب -عن ابن جبير بن مطعم -عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عَوْرَتي، وآمن رَوْعَتِي واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي‏"‏‏.‏ تفرد به البزار وحسنه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري، حدثني جُبَير بن أبي سليمان ابن جبير بن مطعم، سمعت عبد الله بن عمر يقول‏:‏ لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي‏:‏ ‏"‏اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن رَوْعاتي، اللهم احفظني من بين يديّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فَوْقِي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي‏"‏‏.‏ قال وكيع‏:‏ يعني الخسف‏.‏ ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حِبَّان، والحاكم من حديث عبادة بن مسلم، به وقال الحاكم‏:‏ صحيح الإسناد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏

أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله‏:‏ ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ أما ‏"‏المذؤوُم‏"‏ فهو المعيب، والذّأم غير مشدَّد‏:‏ العيب‏.‏ يقال‏:‏ ‏"‏ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم‏"‏‏.‏ ويتركون الهمز فيقولون‏:‏ ‏"‏ذمْته أذيمه ذيما وذَاما، والذام والذيم أبلغ في العيب من الذم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏والمدحور‏"‏‏:‏ المُقْصَى‏.‏ وهو المبعد المطرود‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ما نعرف المذءوم‏"‏ و‏"‏المذموم‏"‏ إلا واحدًا‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا‏}‏ قال‏:‏ مقيتا‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ صغيرا مقيتا‏.‏ وقال السدي‏:‏ مقيتا مطرودا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لعينا مقيتا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ منفيًا مطرودًا‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ مذؤوما‏:‏ منفيا، والمدحور‏:‏ المصغر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ كقوله ‏{‏قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 63 -65‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 22‏]‏

‏{‏وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏

يذكر تعالى أنه أباح لآدم، عليه السلام، ولزوجته ‏[‏حواء‏]‏ الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة‏.‏ وقد تقدم الكلام على ذلك في ‏"‏سورة البقرة‏"‏، فعند ذلك حسدهما الشيطان، وسعى في المكر والخديعة والوسوسة ليُسلبا ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن، وقال كذبا وافتراء‏:‏ ما نهاكما ربكما عن أكل الشجرة إلا لتكونا ملكين أي‏:‏ لئلا تكونا ملكين، أو خالدين هاهنا ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما كقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏ أي‏:‏ لئلا تكونا ملكين، كقوله‏:‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ أي‏:‏ لئلا تضلوا، ‏{‏وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 15‏]‏ أي‏:‏ لئلا تميد بكم‏.‏

وكان ابن عباس ويحيى بن أبي كثير يقرآن‏:‏ ‏{‏إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ‏}‏ بكسر اللام‏.‏ وقرأه الجمهور بفتحها‏.‏

‏{‏وَقَاسَمَهُمَا‏}‏ أي‏:‏ حلف لهما بالله‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ‏}‏ فإني من قَبْلكما هاهنا، وأعلم بهذا المكان، وهذا من باب المفاعلة والمراد أحد الطرفين، كما قال خالد بن زهير، ابن عم أبي ذؤيب‏:‏

وقاسَمَها بالله جَهْدا لأنتمُ *** ألذّ من السلوى إذ ما نشورها

أي‏:‏ حلف لهما بالله ‏[‏على ذلك‏]‏ حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله، فقال‏:‏ إني خُلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما‏.‏ وكان بعض أهل العلم يقول‏:‏ ‏"‏من خادعنا بالله خُدعنا له‏"‏‏.‏ ‏{‏فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏

قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب، رضي الله عنه، قال‏:‏ كان آدم رجلا طُوَالا كأنه نخلة سَحُوق، كثير شعر الرأس‏.‏ فلما وقع بما وقع به من الخطيئة، بَدَتْ له عورته عند ذلك، وكان لا يراها‏.‏ فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة، فقال لها‏:‏ أرسليني‏.‏ فقالت‏:‏ إني غير مرسلتك‏.‏ فناداه ربه، عز وجل‏:‏ يا آدم، أمنّي تفر‏؟‏ قال‏:‏ رب إني استحييتك‏.‏ وقد رواه ابن جرير، وابن مَرْدُويه من طُرُق، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف أصحّ إسنادا‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا سفيان بن عيينة وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، السنبلة‏.‏ فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وَرقَ التين، يلزقان بعضه إلى بعض‏.‏ فانطلق آدم، عليه السلام، موليا في الجنة، فعلقت برأسه شجرة من الجنة، فناداه‏:‏ يا آدم، أمني تفر‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكني استحييتك يا رب‏.‏ قال‏:‏ أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة، عما حرمت عليك‏.‏ قال‏:‏ بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا‏.‏ قال‏:‏ وهو قوله، عز وجل ‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ‏}‏ قال‏:‏ فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كَدا‏.‏ قال‏:‏ فأهبط من الجنة، وكانا يأكلان منها رَغَدًا، فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب، فعُلّم صنعة الحديد، وأمر بالحرث، فحرث وزرع ثم سقى، حتى إذا بلغ حصد، ثم داسه، ثم ذَرّاه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، ثم أكله، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ وقال الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ‏}‏ قال‏:‏ ورق التين‏.‏ صحيح إليه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة كهيئة الثوب‏.‏

وقال وَهْب بن مُنَبِّه في قوله‏:‏ ‏{‏يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا‏}‏ قال‏:‏ كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما، لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا‏.‏ فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما‏.‏ رواه ابن جرير بإسناد صحيح إليه‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة قال‏:‏ قال آدم‏:‏ أي رب، أرأيت إن تبت واستغفرت‏؟‏ قال‏:‏ إذًا أدخلك الجنة‏.‏ وأما إبليس فلم يسأله التوبة، وسأله النظرة، فأعطي كل واحد منهما الذي سأله‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام، عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ لما أكل آدم من الشجرة قيل له‏:‏ لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها‏.‏ قال‏:‏ حواء‏.‏ أمرتني‏.‏ قال‏:‏ فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْها، ولا تضع إلا كَرْها‏.‏ قال‏:‏ فرنَّت عند ذلك حواء‏.‏ فقيل لها‏:‏ الرنة عليك وعلى ولدك وقال الضحاك بن مُزَاحِم في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه ‏[‏عز وجل‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 25‏]‏

‏{‏قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏

قيل‏:‏ المراد بالخطاب في ‏{‏اهْبِطُوا‏}‏ آدم، وحواء، وإبليس، والحية‏.‏ ومنهم من لم يذكر الحية، والله أعلم‏.‏

والعمدة في العداوة آدم وإبليس؛ ولهذا قال تعالى في سورة ‏"‏طه‏"‏ قال‏:‏ ‏{‏اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 123‏]‏ وحواء تبع لآدم‏.‏ والحية -إن كان ذكرها صحيحا -فهي تبع لإبليس‏.‏

وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها‏.‏ ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم، أو دنياهم، لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏}‏ أي‏:‏ قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم، وأحصاها القدر، وسطرت في الكتاب الأول‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏مُسْتَقَرٌّ‏}‏ القبور‏.‏ وعنه‏:‏ وجه الأرض وتحتها‏.‏ رواهما ابن أبي حاتم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏ يخبر تعالى أنه يجعل الأرض دارًا لبني آدم مدة الحياة الدنيا، فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم، ومنها نشورهم ليوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، ويجازي كلا بعمله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏

يمتن تبارك وتعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس المذكور هاهنا لستر العورات -وهي السوآت والرياش والريش‏:‏ هو ما يتجمل به ظاهرًا، فالأول من الضروريات، والريش من التكملات والزيادات‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ‏"‏الرياش‏"‏ في كلام العرب‏:‏ الأثاث، وما ظهر من الثياب‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -وحكاه البخاري -عنه‏:‏ الرياش‏:‏ المال‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعُرْوَة بن الزبير، والسُّدِّي والضحاك وقال العَوْفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏الرياش‏"‏ اللباس، والعيش، والنعيم‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏"‏الرياش‏"‏‏:‏ الجمال‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أصْبَغُ، عن أبي العلاء الشامي قال‏:‏ لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا، فلما بلغ تَرْقُوَتَه قال‏:‏ الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي‏.‏ ثم قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من استجد ثوبًا فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته‏:‏ الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الذي خَلُقَ أو‏:‏ ألقى فتصدق به، كان في ذمة الله، وفي جوار الله، وفي كنف الله حيا وميتا، ‏[‏حيا وميتا، حيا وميتا‏]‏ ‏"‏‏.‏ ورواه الترمذي، وابن ماجه، من رواية يزيد بن هارون، عن أصبغ -هو ابن زيد الجهني -وقد وثقه يحيى بن مَعِين وغيره، وشيخه ‏"‏أبو العلاء الشامي‏"‏ لا يعرف إلا بهذا الحديث، ولكن لم يخرجه أحد، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضا‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا مختار بن نافع التمار، عن أبي مطر؛ أنه رأى عليا، رضي الله عنه، أتى غلامًا حدثًا، فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين، يقول ولبسه‏:‏ الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي‏.‏ فقيل‏:‏ هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة‏:‏ ‏"‏الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ‏}‏ قرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏ولباسَ التقوى‏"‏، بالنصب‏.‏ وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء، ‏{‏ذَلِكَ خَيْرٌ‏}‏ خبره‏.‏

واختلف المفسرون في معناه، فقال عكرمة‏:‏ يقال‏:‏ هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال زيد بن علي، والسُّدِّي، وقتادة، وابن جُريْج‏:‏ ‏{‏وَلِبَاسُ التَّقْوَى‏}‏ الإيمان‏.‏

وقال العَوْفي، عن ابن عباس ‏[‏رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏وَلِبَاسُ التَّقْوَى‏}‏‏]‏ العمل الصالح‏.‏

وقال زياد بن عمرو، عن ابن عباس‏:‏ هو السمت الحسن في الوجه‏.‏

وعن عُرْوَة بن الزبير‏:‏ ‏{‏لِبَاسُ التَّقْوَى‏}‏ خشية الله‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏لِبَاسُ التَّقْوَى‏}‏ يتقي الله، فيواري عورته، فذاك لباس التقوى‏.‏

وكل هذه متقاربة، ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال‏:‏ حدثني المثنى، حدثنا إسحاق بن الحجاج، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن قال‏:‏ رأيت عثمان بن عفان، رضي الله عنه، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهي محلول الزرّ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب، وينهى عن اللعب بالحمام‏.‏ ثم قال‏:‏ يا أيها الناس، اتقوا الله في هذه السرائر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏والذي نفس محمد بيده، ما عمل أحد قط سرا إلا ألبسه الله رداء علانية، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر‏"‏‏.‏ ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏"‏ورياشًا‏"‏ ولم يقرأ‏:‏ وريشًا -‏{‏وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏السمت الحسن‏"‏‏.‏

هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم وفيه ضعف‏.‏ وقد روى الأئمة‏:‏ الشافعي، وأحمد، والبخاري في كتاب ‏"‏الأدب‏"‏ من طرق صحيحة، عن الحسن البصري؛ أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام، يوم الجمعة على المنبر‏.‏

وأما المرفوع منه فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهدًا من وجه آخر، حيث قال‏:‏ حدثنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏

يقول تعالى محذرًا بني آدم من إبليس وقبيله، ومبينًا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم، عليه السلام، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم، إلى دار التعب والعناء، والتسبب في هتك عورته بعدما كانت مستورة عنه، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28 - 30‏]‏

‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ‏}‏

قال مجاهد‏:‏ كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، يقولون‏:‏ نطوف كما ولدتنا أمهاتنا‏.‏ فتضع المرأة على فرجها النسعة، أو الشيء وتقول‏:‏

اليوم يبدُو بعضُه أو كلّه *** وما بَدا منه فلا أحلّه

فأنزل الله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا‏}‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ كانت العرب -ما عدا قريشًا -لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، وكانت قريش -وهم الحُمْس -يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبًا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، فمن لم يجد ثوبًا جديدًا ولا أعاره أحمسي ثوبًا، طاف عريانًا‏.‏ وربما كانت امرأة فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئًا يستره بعض الشيء وتقول‏:‏

اليوم يبدُو بعضُه أو كلّه *** وما بدَا منه فلا أحلّهُ

وأكثر ما كان النساء يطفن ‏[‏عراة‏]‏ بالليل، وكان هذا شيئًا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا‏}‏ فقال تعالى ردًا عليهم‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ أي‏:‏ قل يا محمد لمن ادعى ذلك‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك ‏{‏أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ‏}‏ أي‏:‏ بالعدل والاستقامة، ‏{‏وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏أي‏:‏ أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله ‏[‏تعالى‏]‏ وما جاءوا به ‏[‏عنه‏]‏ من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين‏:‏ أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون‏.‏ ‏[‏فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ‏]‏ الضَّلالَة‏}‏ -اختلف في معنى ‏[‏قوله تعالى‏]‏‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ فقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ يحييكم بعد موتكم‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ كما بدأكم في الدنيا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ قال‏:‏ بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم ذهبوا، ثم يعيدهم‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرًا‏.‏

واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير، وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، كلاهما عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حُفَاة عُرَاة غُرْلا ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏

وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين، من حديث شعبة، وفي حديث البخاري -أيضا -من حديث الثوري به‏.‏

وقال وقَاء بن إياس أبو يزيد، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ قال‏:‏ يبعث المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ رُدُّوا إلى علمه فيهم‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ كما كتب عليكم تكونون -وفي رواية‏:‏ كما كنتم تكونون عليه تكونون‏.‏

وقال محمد بن كعب القُرَظِي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه‏.‏ ومن ابتُدئ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه، إن عمل بأعمال أهل الشقاء، كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء، ثم صاروا إلى ما ابتدئوا عليه‏.‏

وقال السُّدِّي‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏.‏ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ‏}‏ يقول‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ كما خلقناكم، فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ‏}‏ قال‏:‏ إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا، كما قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 2‏]‏ ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمنًا وكافرًا‏.‏

قلت‏:‏ ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري ‏"‏ فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع -أو‏:‏ ذراع -فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع -أو‏:‏ ذراع -فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة‏"‏

وقال أبو القاسم البَغَوي‏:‏ حدثنا علي بن الجَعْد، حدثنا أبو غَسَّان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن العبد ليعمل -فيما يرى الناس -بعمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار‏.‏ وإنه ليعمل -فيما يرى الناس -بعمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم‏"‏

هذا قطعة من حديث رواه البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مُطَرَّف المدني، في قصة ‏"‏قُزْمان‏"‏ يوم أحد‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏تُبْعَثُ كل نَفْسٍ على ما كانت عليه‏"‏‏.‏ وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه، عن الأعمش، به‏.‏ ولفظه‏:‏ ‏"‏يبعث كل عبد على ما مات عليه‏"‏

قلت‏:‏ ولا بد من الجمع بين هذا القول -إن كان هو المراد من الآية -وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ وما جاء في الصحيحين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه‏"‏ وفي صحيح مسلم، عن عِياض بن حمَار قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ إني خلقت عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم‏"‏ الحديث‏.‏ ووجه الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر، في ثاني الحال، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق، وجعله في غرائزهم وفطرهم، ومع هذا قدر أن منهم شقيًا ومنهم سعيدًا‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 2‏]‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمُعْتِقُهَا، أو مُوبِقها‏"‏ وقدر الله نافذ في بريته، فإنه هو ‏{‏الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏ و‏{‏الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏ وفي الصحيحين‏:‏ ‏"‏فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة‏"‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ‏}‏ ثم علل ذلك فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ‏[‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ‏]‏‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى، فرق‏.‏ وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية ‏[‏الكريمة‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏}‏

هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عُراة، كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير -واللفظ له -من حديث شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال‏:‏ كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء‏:‏ الرجال بالنهار، والنساء بالليل‏.‏ وكانت المرأة تقول‏:‏

اليومَ يبدُو بعضُه أو كُلّه *** وما بَدَا مِنْه فلا أحِلّه

فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ الآية، قال‏:‏ كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة -والزينة‏:‏ اللباس، وهو ما يوارى السوأة، وما سوى ذلك من جَيّد البزِّ والمتاع -فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد‏.‏

وكذا قال مجاهد، وعطاء، وإبراهيم النَّخعي، وسعيد بن جُبَيْر، وقتادة، والسُّدِّي، والضحاك، ومالك عن الزهري، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها‏:‏ أنها أنزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة‏.‏

وقد روى الحافظ بن مَرْدُويه، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي، عن قتادة، عن أنس مرفوعا؛ أنها أنزلت في الصلاة في النعال‏.‏ ولكن في صحته نظر والله أعلم‏.‏

ولهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل الثياب البياض، كما قال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا علي بن عاصم، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثْمِد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر‏"‏‏.‏

هذا حديث جيد الإسناد، رجاله على شرط مسلم‏.‏ ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، به وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وللإمام أحمد أيضا، وأهل السنن بإسناد جيد، عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عليكم بالثياب البياض فالبسوها؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم‏"‏

وروى الطبراني بسند صحيح، عن قتادة، عن محمد بن سيرين‏:‏ أن تميما الداري اشترى رداءً بألف، فكان يصلي فيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ‏[‏وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏]‏‏}‏ الآية‏.‏ قال بعض السلف‏:‏ جمع الله الطب كله في نصف آية‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا‏}‏

وقال البخاري‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان‏:‏ سرَف ومَخِيلة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَوْر، عن مَعْمَر، عن

ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال‏:‏ أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة‏.‏ إسنادهصحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا بَهْز، حدثنا هَمّام، عن قتادة، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير مَخِيلة ولا سرَف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده‏"‏ ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة‏"‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سليمان بن سليم الكِناني، حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معد يكرب الكندي قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث طعامٌ، وثلث شرابٌ، وثلث لنفسه‏"‏‏.‏

ورواه النسائي والترمذي، من طرق، عن يحيى بن جابر، به وقال الترمذي‏:‏ حسن -وفي نسخة‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده‏:‏ حدثنا سُوَيْد بن عبد العزيز حدثنا بَقِيَّة، عن يوسف ابن أبي كثير، عن نوح بن ذَكْوان، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت‏"‏‏.‏ ورواه الدارقطني في الأفراد، وقال‏:‏ هذا حديث غريب تفرد به بقية‏.‏

وقال السُّدِّي‏:‏ كان الذين يطوفون بالبيت عراة، يحرمون عليهم الودَكَ ما أقاموا في الموسم؛ فقال الله ‏[‏تعالى‏]‏ لهم‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ‏[‏وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏]‏‏}‏ يقول‏:‏ لا تسرفوا في التحريم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏وَلا تُسْرِفُوا‏}‏ يقول‏:‏ ولا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف‏.‏

وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏}‏ في الطعام والشراب‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏}‏ يقول الله‏:‏ إن الله ‏[‏تعالى‏]‏ لا يحب المتعدين حَدَّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحل أو حَرّم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل، ويحرم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى ردًا على من حَرَّم شيئًا من المآكل أو المشارب، والملابس، من تلقاء نفسه، من غير شرع من الله‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم‏:‏ ‏{‏مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ‏[‏وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏]‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حسًا في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يَشْرَكهم فيها أحد من الكفار، فإن الجنة محرّمة على الكافرين‏.‏

قال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا أبو حُصَين محمد بن الحسين القاضي، حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة، يصفرون ويُصفِّقون‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ‏}‏ فأمروا بالثياب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقِيقٍ، عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا أحد أغير من الله، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله‏"‏‏.‏

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن مهْران الأعمش، عن شقيق عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود وتقدم الكلام في سورة الأنعام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏ قال السُّدِّي‏:‏ أما الإثم فالمعصية، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق‏.‏

وقال مجاهد‏:‏الإثم المعاصي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه‏.‏

وحاصل ما فُسّر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس، فحرم الله هذا وهذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ تجعلوا له شريكا في عبادته، وأن تقولوا عليه من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك، مما لا علم لكم به كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ ‏[‏وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏]‏‏}‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏ 30، 31‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 36‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ قرن وجيل ‏{‏أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ميقاتهم المقدر لهم ‏{‏لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً‏}‏ عن ذلك ‏{‏وَلا يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته، وبَشر وحذر فقال‏:‏ ‏{‏فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ‏}‏ أي‏:‏ ترك المحرمات وفعل الطاعات ‏{‏فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا‏}‏ أي‏:‏ كذبت بها قلوبهم، واستكبروا عن العمل بها ‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ ماكثون فيها مكثًا مخلدًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ‏}‏

يقول ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله، أو كذب بآيات الله المنزلة‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ اختلف المفسرون في معناه، فقال العَوْفي عن ابن عباس‏:‏ ينالهم ما كتب عليهم، وكتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول‏:‏ نصيبهم من الأعمال، من عَمِل خيرًا جُزِي به، ومن عمل شرًا جُزِي به‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ما وعدوا فيه من خير وشر‏.‏

وكذا قال قتادة، والضحاك، وغير واحد‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ قال‏:‏ عمله ورزقه وعمره‏.‏

وكذا قال الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏ وهذا القول قوي في المعنى، والسياق يدل عليه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ‏}‏ ويصير المعنى في هذه الآية كما في قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 69، 70‏]‏ وقوله ‏{‏وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ‏[‏ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏]‏‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 23، 24‏]‏‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ‏[‏قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏]‏‏}‏ الآية‏:‏ يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقَبْض أرواحهم إلى النار، يقولون لهم أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله‏؟‏ ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه‏.‏ قالوا‏:‏ ‏{‏ضَلُّوا عَنَّا‏}‏ أي‏:‏ ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم، ولا خيرهم‏.‏ ‏{‏وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أقروا واعترفوا على أنفسهم ‏{‏أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ‏}‏‏.‏